صادق الازرقي
تنفذ أمانة بغداد حملات لإزالة التجاوزات على الأرصفة التي أقيمت أمام بعض البيوت، وايضا تشمل البسطات التي جعلها البعض مصدرا لرزقهم بسبب البطالة وانعدام فرص العمل؛ وتجري الازالة باستعمال الجرافات “الشفلات”؛ وصحيح أن العملية ضرورية لتنظيف الأرصفة وفتحها للمشاة وللمركبات، ولكن فيما يتعلق ببسطات البائعين فإن الأمانة لم توفر لهم أماكن بديلة للانتقال إليها ولم تنشأ أماكن خاصة بهم كي يتواجدون فيها قبل إزالة بسطاتهم.
ان الأسلوب الأمثل لإزالة التجاوزات على الأرصفة مع مراعاة مصدر رزق الباعة الجوالين يتطلب نهجا متوازنا وتدريجيا يجمع بين تطبيق القانون والمسؤولية الاجتماعية وتوفير البدائل المستدامة.
لقد أثبتت التجارب في عدة مدن عراقية أن الحل الفعال يجب أن يركز على الموازنة بين الحاجة لتنظيم المدينة وإفساح الأرصفة للمشاة، وبين مراعاة الظروف المعيشية للباعة الذين يعتمدون على هذه البسطات كمصدر رزقهم الوحيد نتيجة للبطالة.
يجب ان يجري في المرحلة الأولى، التخطيط وتوفير البدائل اذ يمثل ذلك الأولوية القصوى، وعلى أمانة بغداد تخصيص وإعداد مناطق بديلة منظمة ومجهزة (أسواق شعبية نموذجية أو مجمعات تجارية صغيرة) في أماكن حيوية وقريبة من التجمعات السكانية لضمان استمرار حركة البيع والشراء.
ويتوجب إجراء مسح شامل للباعة الجوالين لتحديد أعدادهم وأنواع بضاعتهم وظروفهم المعيشية، وتصنيفهم بحسب النشاط لتوزيعهم على الأماكن البديلة بشكل مناسب.
ومن الضروري تقديم الأماكن البديلة (البسطات أو المحال الصغيرة) بإيجارات رمزية أو برسوم بسيطة وميسرة لمدة أولية، لمساعدتهم على الانتقال والتأقلم من دون تحميلهم أعباء مالية فورية.
يستدعي الامر، التواصل الفعال والمباشر مع الباعة المتضررين وإشراكهم في عملية التخطيط وتوضيح الأسباب والحلول البديلة المتاحة، مع منحهم مهلة زمنية كافية للانتقال إلى الأماكن المخصصة.
ثم تجري المرحلة الثانية بالتنفيذ التدريجي والموجه، اذ لا تبدأ عملية الإزالة إلا بعد التأكد من جاهزية المواقع البديلة واستيعابها للعدد الأكبر من الباعة، وإتمام عملية نقلهم بشكل منظم.
ومن الضروري اولا البدء بإزالة التجاوزات التي تشكل خطورة على السلامة العامة أو تعوق مشاريع البنى التحتية، أو التي تخص المحال التجارية الكبيرة (التي تستغل الأرصفة) التي لا يعد مصدر رزقها الأساسي هو البسطة.
وبعد توفير البدائل والمهلة الكافية، يجري تطبيق القانون على من يرفض الانتقال، مع استعمال الآليات المناسبة مثل المصادرة المؤقتة للبضاعة أو الغرامات، بدلا من الإزالة بالجرافات مباشرة على البسطة، مع مراعاة ألا تؤدي الإجراءات إلى قطع مصدر الرزق بشكل تام ومفاجئ.
المرحلة الثالثة تشمل التفكير في ربط الباعة الذين لا يمكن توفير بديل تجاري لهم بمنح أو قروض ميسرة لتشجيعهم على إقامة مشاريع صغيرة منظمة أو مساعدتهم في الحصول على فرص عمل أخرى على المدى الطويل.
ويتوجب بعدئذ مراقبة تلك الأسواق البديلة بصورة يومية لضمان التزام الباعة بالنظام (النظافة، عدم التجاوز على المساحات المخصصة)، وضمان استمرارية نجاح المشروع البديل.
بهذه الطريقة، يجري تحقيق الهدف الأساسي للأمانة وهو تنظيم المدينة وفتح الأرصفة للمشاة، وفي الوقت نفسه، التخفيف من الأثر الاجتماعي والاقتصادي على شريحة من السكان تعتمد على هذا العمل البسيط لكسب رزقها.
وفي الحقيقة، ان مشكلة الباعة الجوالين والتجاوزات على الأرصفة تعد تحديا عالميا، وقد تبنت عديد الدول والمدن مقاربات متنوعة لتحقيق التوازن بين النظام الحضري وحماية مصادر الرزق.
فبدلا من الإزالة الكاملة، اعتمدت (هونج كونج – الصين) على تخصيص زوايا وشوارع جانبية محددة لا تعوق الحركة المرورية الرئيسة أو مركبات “الترام”، وتجهيزها لاستيعاب الباعة.
وجرى تخصيص مساحات صغيرة لكل بائع قد لا تتجاوز 1.5 متر مربع بشكل منظم ومتجاور، والزم الباعة بمواعيد إغلاق محددة (مثل الساعة العاشرة مساء)، والحفاظ على النظافة، ودفع رسوم أو ضريبة بسيطة، مما أدى إلى دمجهم في الاقتصاد الرسمي وتحسين مظهر المنطقة.
وفي المغرب جرى التركيز على الإدماج الاقتصادي والاجتماعي للباعة الجوالين، ووضع استراتيجية شاملة، تمثلت بإقامة أسواق نظامية مجهزة بالخدمات والمرافق لتوطين الباعة الجوالين بعيدا عن الشوارع الرئيسة.
واحدثت المغرب برامج تدريبية مرنة للباعة في مجالات مثل محو الأمية، والتكنولوجيا الرقمية، والتسويق، والتدبير، لمساعدتهم على تحسين دخلهم والانتقال لأنشطة اقتصادية أكثر استدامة، وجرى تشجيع تطوير وإنتاج معدات وتجهيزات ثابتة ومتحركة (مثل الأكشاك والعربات) تحترم متطلبات النظافة والسلامة.
دول الخليج وبعض الدول العربية، وضعت لوائح وقوانين واضحة لتنظيم نشاط البيع المتجول بشكل يضمن السلامة العامة والنظام، فحددت الأماكن المسموح بها للبيع المتجول (مثل مواقف محددة أو حاضنات بلدية)، والأماكن المحظورة بشكل قاطع (كالأرصفة الرئيسة والتقاطعات).
وحددت أدوات البيع المسموح واساليبه وحصرتها في المركبات المتنقلة (شاحنات الطعام المجهزة)، أو الأكشاك المؤقتة، أو البسطات المحددة، وحظر الطرق غير النظامية الأخرى؛ وجرى إلزام الباعة بعدم عرقلة حركة المرور، ومراعاة الناحية الجمالية، وتوفير حاويات نفايات مغلقة، والالتزام بمعايير الصحة والسلامة للأغذية. يجري كل ذلك بالمتابعة من قبل البلدية على مدار اليوم.
تظهر هذه التجارب وغيرها، أن الحلول الأكثر نجاحا لمشكلة الباعة الجوالين، هي التي تتبنى معالجة متعددة الأبعاد، النظر إلى البسطات ليس فقط كتجاوز، بل كمصدر رزق اضطراري يجب التعامل معه اجتماعيا واقتصاديا، والتوطين قبل الإزالة بتوفير مواقع بديلة عملية وجذابة تجاريا للباعة قبل البدء بأي حملة إزالة؛ وتنظيم العمل والدمج بتحويل الباعة مما يسمى “اقتصاد الظل” غير المنظم إلى اقتصاد رسمي خاضع للرقابة، ولو برسوم رمزية، لضمان التزامهم بالنظافة والقانون.